الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)} نزلت هذه السورة بعد سورة «الصف» السابقة. وهي تعالج الموضوع الذي عالجته سورة الصف، ولكن من جانب آخر، وبأسلوب آخر، وبمؤثرات جديدة. إنها تعالج أن تقر في أخلاد الجماعة المسلمة في المدينة أنها هي المختارة أخيراً لحمل أمانة العقيدة الإيمانية؛ وأن هذا فضل من الله عليها؛ وأن بعثة الرسول الأخير في الأميين وهم العرب منة كبرى تستحق الالتفات والشكر، وتقتضي كذلك تكاليف تنهض بها المجموعة التي استجابت للرسول، واحتملت الأمانة؛ وأنها موصولة على الزمان غير مقطوعة ولا منبتة، فقد قدر الله أن تنمو هذه البذرة وتمتد. بعدما نكل بنو إسرائيل عن حمل هذه الأمانة وانقطعت صلتهم بأمانة السماء؛ وأصبحوا يحملون التوراة كالحمار يحمل أسفاراً، ولا وظيفة له في إدراكها، ولا مشاركة له في أمرها! تلك هي الحقيقة الرئيسية التي تعالج السورة إقرارها في قلوب المسلمين. من كان منهم في المدينة يومذاك على وجه الخصوص، وهم الذين ناط الله بهم تحقيق المنهج الإسلامي في صورة واقعة. ومن يأتي بعدهم ممن أشارت إليهم السورة، وضمتهم إلى السلسلة الممتدة على الزمان. وفي الوقت ذاته تعالج السورة بعض الحالات الواقعة في تلك الجماعة الأولى؛ في أثناء عملية البناء النفسي العسيرة المتطاولة الدقيقة. وتخلصها من الجواذب المعوقة من الحرص والرغبة العاجلة في الربح، وموروثات البيئة والعرف. وبخاصة حب المال وأسبابه الملهية عن الأمانة الكبرى، والاستعداد النفسي لها. وتشير إلى حادث معين. حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبهم في المسجد للجمعة حين حضرت قافلة من قوافلهم التجارية؛ فما إن أعلن نبأ قدومها حتى انفض المستمعون منصرفين إلى التجارة واللهو الذي كانت القافلة تحاط به- على عادة الجاهلية- من ضرب بالدفوف وحداء وهيصة!وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً. فيما عدا اثني عشر من الراسخين فيهم أبو بكر وعمر بقوا يستمعون! كما تذكر الروايات، التي قد لا تكون دقيقة من حيث العدد، ولكنها ثابتة من حيث وقوع هذه الحركة من عدد من الحاضرين اقتضى التنبيه إليها في القرآن الكريم. وهي حادثة تكشف بذاتها عن مدى الجهد الذي بذل في تربية تلك الجماعة الأولى حتى انتهت إلى ما انتهت إليه؛ وحتى صارت ذلك النموذج الفريد في تاريخ الإسلام وفي تاريخ البشرية جميعاً. وتلهمنا الصبر على مشقة بناء النفوس في أي جيل من الأجيال، لتكوين الجماعة المسلمة التي تنهض بحمل أمانة هذه العقيدة، وتحاول تحقيقها في عالم الواقع كما حققتها الجماعة الأولى. وفي السورة مباهلة مع اليهود، بدعوتهم إلى تمني الموت للمبطلين من الفريقين وذلك رداً على دعواهم أنهم أولياء الله من دون الناس، وأنهم شعب الله المختار، وأن بعثة الرسول في غيرهم لا تكون! كما كانوا يدعون! مع جزم القرآن بأنهم لن يقبلوا هذه المباهلة التي دعوا إليها فنكلوا عنها لشعورهم ببطلان دعواهم. وتعقب السورة على هذا بتقرير حقيقة الموت الذي يفرون منه، وأنه ملاقيهم مهما فروا، وأنهم مردودون إلى عالم الغيب والشهادة فمنبئهم بما كانوا يعملون.. وهو تقرير لا يخص اليهود وحدهم، إنما يلقيه القرآن ويدعه يفعل فعله في نفوس المؤمنين كذلك. فهذه الحقيقة لا بد أن تستقر في نفوس حملة أمانة الله في الأرض، لينهضوا بتكاليفها وهم يعرفون الطريق! هذا هو اتجاه السورة، وهو قريب من اتجاه سورة الصف قبلها، مع تميز كل منهما بالجانب الذي تعالجه، وبالأسلوب الذي تأخذ القلوب به، والظلال التي تلقيها هذه وتلك في الاتجاه الواحد العام. فلننظر كيف يتناول الأسلوب القرآني هذا الاتجاه.. {يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض، الملك القدوس العزيز الحكيم}.. هذا المطلع يقرر حقيقة التسبيح المستمرة من كل ما في الوجود لله؛ ويصفه سبحانه بصفات ذات علاقة لطيفة بموضوع السورة. السورة التي اسمها «الجمعة» وفيها تعليم عن صلاة الجمعة، وعن التفرغ لذكر الله في وقتها، وترك اللهو والتجارة، وابتغاء ما عند الله وهو خير من اللهو ومن التجارة. ومن ثم تذكر: {الملك}.. الذي يملك كل شيء بمناسبة التجارة التي يسارعون إليها ابتغاء الكسب. وتذكر {القدوس} الذي يتقدس ويتنزه ويتوجه إليه بالتقديس والتنزيه كل ما في السماوات والأرض، بمناسبة اللهو الذي ينصرفون إليه عن ذكره. وتذكر {العزيز}.. بمناسبة المباهلة التي يدعى إليها اليهود والموت الذي لا بد أن يلاقي الناس جميعاً والرجعة إليه والحساب. وتذكر {الحكيم}.. بمناسبة اختياره الأميين ليبعث فيهم رسولاً يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة.. وكلها مناسبات لطيفة المدخل والاتصال. ثم يبدأ في موضوع السورة الرئيسي: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. وآخرين منهم لما يلحقوا بهم، وهو العزيز الحكيم}.. قيل إن العرب سموا الأميين لأنهم كانوا لا يقرأون ولا يكتبون في الأعم الأغلب وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الشهر هكذا وهكذا وهكذا وأشار بأصابعه» وقال: «إنا نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب». وقيل: إنما سمي من لا يكتب أمياً لأنه نسب إلى حال ولادته من الأم، لأن الكتابة إنما تكون بالإستفادة والتعلم. وربما سموا كذلك كما كان اليهود يقولون عن غيرهم من الأمم: إنهم «جوييم» باللغة العبرية أي أمميون. نسبة إلى الأمم بوصفهم هم شعب الله المختار وغيرهم هم الأمم! والنسبة في العربية إلى المفرد.. أمة.. أميون.. وربما كان هذا أقرب بالنسبة إلى موضوع السورة. ولقد كان اليهود ينتظرون مبعث الرسول الأخير منهم، فيجمعهم بعد فرقة، وينصرهم بعد هزيمة، ويعزهم بعد ذل. وكانوا يستفتحون بهذا على العرب، أي يطلبون الفتح بذلك النبي الأخير. ولكن حكمة الله اقتضت أن يكون هذا النبي من العرب، من الأميين غير اليهود؛ فقد علم الله أن يهود قد فرغ عنصرها من مؤهلات القيادة الجديدة الكاملة للبشرية كما سيجيء في المقطع التالي في السورة وأنها زاغت وضلت كما جاء في سورة الصف. وأنها لا تصلح لحمل الأمانة بعدما كان منها في تاريخها الطويل! وكانت هناك دعوة إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام تلك الدعوة التي أطلقها في ظل البيت هو وإسماعيل عليه السلام: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل.. ربنا تقبل منآ إنك أنت السميع العليم، ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنآ أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينآ إنك أنت التواب الرحيم. ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم. إنك أنت العزيز الحكيم} كانت هناك هذه الدعوة من وراء الغيب، ومن وراء القرون، محفوظة عند الله لا تضيع، حتى يجيء موعدها المقدور في علم الله، وفق حكمته؛ وحتى تتحقق في وقتها المناسب في قدر الله وتنسقيه، حتى تؤدي دورها في الكون حسب التدبير الإلهي الذي لا يستقدم معه شيء، ولا يستأخر عن موعده المرسوم. وتحققت هذه الدعوة وفق قدر الله وتدبيره بنصها الذي تعيده السورة هنا لتذكر بحكاية ألفاظ إبراهيم.. {رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة}.. كما قال إبراهيم! حتى صفة الله في دعاء إبراهيم: {إنك أنت العزيز الحكيم} هي ذاتها التي تعقب على التذكير بمنة الله وفضله هنا: {وهو العزيز الحكيم}. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه فقال: «دعوة أبي إبراهيم. وبشرى عيسى. ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام». {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.. والمنة ظاهرة في اختيار الله للأميين ليجعلهم أهل الكتاب المبين؛ وليرسل فيهم رسولاً منهم، يرتفعون باختياره منهم إلى مقام كريم؛ ويخرجهم من أميتهم أو من أمميتهم بتلاوة آيات الله عليهم، وتغيير ما بهم، وتمييزهم على العالمين.. {ويزكيهم}.. وإنها لتزكية وإنه لتطهير ذلك الذي كان يأخذهم به الرسول صلى الله عليه وسلم تطهير للضمير والشعور، تطهير للعمل والسلوك، وتطهير للحياة الزوجية، وتطهير للحياة الاجتماعية. تطهير ترتفع به النفوس من عقائد الشرك إلى عقيدة التوحيد؛ ومن التصورات الباطلة إلى الاعتقاد الصحيح، ومن الأساطير الغامضة إلى اليقين الواضح. وترتفع به من رجس الفوضى الأخلاقية إلى نظافة الخلق الإيماني. ومن دنس الربا والسحت إلى طهارة الكسب الحلال.. إنها تزكية شاملة للفرد والجماعة ولحياة السريرة وحياة الواقع. تزكية ترتفع بالإنسان وتصوراته عن الحياة كلها وعن نفسه ونشأته إلى آفاق النور التي يتصل فيها بربه، ويتعامل مع الملأ الأعلى؛ ويحسب في شعوره وعمله حساب ذلك الملأ العلوي الكريم. {ويعلمهم الكتاب والحكمة}.. يعلمهم الكتاب فيصبحون أهل الكتاب. ويعلمهم الحكمة فيدركون حقائق الأمور، ويحسنون التقدير، وتلهم أرواحهم صواب الحكم وصواب العمل وهو خير كثير. {وأن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.. ضلال الجاهلية التي وصفها جعفر بن أبي طالب لنجاشي الحبشة حين بعثت قريش إليه عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ليكرّهاه في المهاجرين من المسلمين، ويشوها موقفهم عنده، فيخرجهم من ضيافته وجيرته.. فقال جعفر: «أيها الملك. كنا قوماً أهل جاهلية. نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف.. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه. فدعانا إلى الله لنوحده ولنعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان؛ وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء. ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام».. ومع كل ما كانوا عليه في الجاهلية من ضلال فقد علم الله أنهم هم حملة هذه العقيدة الأمناء عليها، بما علم في نفوسهم من استعداد للخير والصلاح؛ ومن رصيد مذخور للدعوة الجديدة؛ وقد فرغت منه نفوس اليهود التي أفسدها الذل الطويل في مصر، فامتلأت بالعقد والالتواءات والانحرافات، ومن ثم لم تستقم أبداً بعد ذلك، لا في حياة موسى عليه السلام، ولا من بعده. حتى كتب الله عليهم لعنته وغضبه، وانتزع من أيديهم أمانة القيام على دينه في الأرض إلى يوم القيامة. وعلم الله أن الجزيرة في ذلك الأوان هي خير مهد للدعوة التي جاءت لتحرير العالم كله من ضلال الجاهلية، ومن انحلال الحضارة في الإمبراطوريات الكبيرة، التي كان سوس الانحلال قد نخر فيها حتى اللباب! هذه الحالة التي يصفها كاتب أوربي حديث فيقول: «ففي القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدين على شفا جرف هار من الفوضى. لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت، ولم يك ثم ما يعتد به مما يقوم مقامها. وكان يبدو إذ ذاك أن المدنية الكبرى التي تكلف بناؤها أربعة آلاف سنة، مشرفة على التفكك والانحلال؛ وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية، إذ القبائل تتحارب وتتناحر، لا قانون ولا نظام. أما النظم التي خلقتها المسيحية فكانت تعمل على الفرقة والانهيار بدلاً من الاتحاد والنظام. وكانت المدنية، كشجرة ضخمة متفرعة امتد ظلها إلى العالم كله، واقفة تترنح وقد تسرب إليها العطب حتى اللباب.. وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحد العالم جميعه «.. وهذه الصورة مأخوذة من زاوية النظر لكاتب أوربي. وهي من زاوية النظر الإسلامية أشد عتاماً وظلاماً! وقد اختار الله سبحانه تلك الأمة البدوية في شبه الجزيرة الصحراوية لتحمل هذا الدين، بما علم في نفوسها وفي ظروفها من قابلية للاستصلاح وذخيرة مرصودة للبذل والعطاء. فأرسل فيهم الرسول يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم، وهو العزيز الحكيم}.. وهؤلاء الآخرون وردت فيهم روايات متعددة.. قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا سليمان بن بلال، عن ثور، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:» كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} قالوا: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعهم حتى سئل ثلاثاً، وفينا سلمان الفارسي، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان الفارسي ثم قال: لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال أو رجل من هؤلاء «فهذا يشير إلى أن هذا النص يشمل أهل فارس. ولهذا قال مجاهد في هذه الآية: هم الأعاجم وكل من صدق النبي صلى الله عليه وسلم من غير العرب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي، حدثنا الوليد بن مسلم. حدثنا أبو محمد عيسى بن موسى عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-:» إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب «ثم قرأ: {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم}.. يعني بقية من بقي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وكلا القولين يدخل في مدلول الآية. فهي تدل على آخرين غير العرب. وعلى آخرين غير الجيل الذي نزل فيه القرآن. وتشير إلى أن هذه الأمة موصولة الحلقات ممتدة في شعاب الأرض وفي شعاب الزمان، تحمل هذه الأمانة الكبرى، وتقوم على دين الله الأخير. {وهو العزيز الحكيم}.. القوي القادر على الاختيار. الحكيم العليم بمواضع الاختيار.. واختياره للمتقدمين والمتأخرين فضل وتكريم: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم}.. وإن اختيار الله لأمة أو جماعة أو فرد ليحمل هذه الأمانة الكبرى، وليكون مستودع نور الله وموضع تلقي فيضه، والمركز الذي تتصل فيه السماء بالأرض.. إن اختيار الله هذا لفضلٌ لا يعدله فضل. فضل عظيم يربى على كل ما يبذله المؤمن من نفسه وماله وحياته؛ ويربى على متاعب الطريق وآلام الكفاح وشدائد الجهاد. والله يذكر الجماعة المسلمة في المدينة، والذين يأتون بعدها الموصولين بها والذين لم يحلقوا بها. يذكرهم هذا الفضل في اختيارهم لهذه الأمانة، ولبعث الرسول فيهم يتلو عليهم الكتاب ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. ويترك للآتين في أطواء الزمان ذلك الرصيد الضخم من الزاد الإلهي، ومن الأمثلة الواقعية في حياة الجماعة الأولى. يذكرهم هذا الفضل العظيم الذي تصغر إلى جانبه جميع القيم، وجميع النعم؛ كما تصغر إلى جانبه جميع التضحيات والآلام.. بعد ذلك يذكر ما يفيد أن اليهود قد انتهى دورهم في حمل أمانة الله؛ فلم تعد لهم قلوب تحمل هذه الأمانة التي لا تحملها إلا القلوب الحية الفاقهة المدركة الواعية المتجردة العاملة بما تحمل: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً. بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين}.. فبنو إسرائيل حملوا التوراة، وكلفوا أمانة العقيدة والشريعة.. {ثم لم يحملوها}.. فحملها يبدأ بالإدراك والفهم والفقه، وينتهي بالعمل لتحقيق مدلولها في عالم الضمير وعالم الواقع. ولكن سيرة بني إسرائيل كما عرضها القرآن الكريم وكما هي في حقيقتها لا تدل على أنهم قدروا هذه الأمانة. ولا أنهم فقهوا حقيقتها، ولا أنهم عملوا بها. ومن ثم كانوا كالحمار يحمل الكتب الضخام، وليس له منها إلا ثقلها. فهو ليس صاحبها. وليس شريكاً في الغاية منها! وهي صورة زرية بائسة، ومثل سيِّئ شائن، ولكنها صورة معبرة عن حقيقة صادقة {بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين}.. ومِثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها.. كل الذين حملوا أمانة العقيدة ثم لم يحملوها. والمسلمون الذين غبرت بهم أجيال كثيرة، والذين يعيشون في هذا الزمان، وهم يحملون أسماء المسلمين ولا يعملون عمل المسلمين. بخاصة أولئك الذين يقرأون القرآن والكتب، وهم لا ينهضون بما فيها.. أولئك كلهم، كالحمار يحمل أسفاراً. وهم كثيرون كثيرون! فليست المسألة كتب تحمل وتدرس. إنما هي مسألة فقه وعمل بما في الكتب. وكان اليهود يزعمون كما يزعمون حتى اليوم أنهم شعب الله المختار، وأنهم هم أولياؤه من دون الناس وأن غيرهم هم «الجوييم» أو الأمميون أو الأميون. وأنهم من ثم غير مطالبين بمراعاة أحكام دينهم مع غيرهم من الأميين: {قالوا ليس علينا في الأميين سبيل}.. إلى آخر هذه الدعاوى التي تفتري الكذب على الله بلا دليل! فهنا دعوة لهم إلى المباهلة التي تكررت معهم ومع النصارى ومع المشركين: {قل: يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أوليآء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين. ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين. قل: إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم، ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة، فينبئكم بما كنتم تعملون}.. والمباهلة معناها وقوف الفريقين المتنازعين وجهاً لوجه، ودعاؤهما معاً إلى الله أن ينكل بالمبطل منهما.. وقد خاف كل من دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه المباهلة ونكلوا عنها، ولم يقبلوا التحدي فيها. مما يدل على أنهم في قرارة نفوسهم كانوا يعرفون صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقية هذا الدين. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن يزيد الزرقي، حدثنا أبو يزيد، حدثنا فرات، عن عبد الكريم ابن مالك الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: «قال أبو جهل لعنه الله إن رأيت محمداً عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على عنقه. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو فعل لأخذته الملائكة عياناً. ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار. ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالا». وقد لا تكون هذه مباهلة ولكن مجرد تحد لهم، بما أنهم يزعمون أنهم أولياء لله من دون الناس. فما يخيفهم إذن من الموت، ويجعلهم أجبن خلق الله؟ وهم حين يموتون ينالون ما عند الله مما يلقاه الأولياء والمقربون؟! ثم عقب على هذا التحدي بما يفيد أنهم غير صادقين فيما يدعون، وأنهم يعرفون أنهم لم يقدموا بين أيديهم ما يطمئنون إليه، وما يرجون الثواب والقربى عليه، إنما قدموا المعصية التي تخيفهم من الموت وما وراءه. والذي لم يقدم الزاد يجفل من ارتياد الطريق: {ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين}.. وفي نهاية الجولة يقرر حقيقة الموت وما بعده، ويكشف لهم عن قلة الجدوى في فرارهم من الموت، فهو حتم لا مهرب منه، وما بعده من رجعة إلى الله، وحساب على العمل حتم كذلك لا ريب فيه: {قل: إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم. ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة، فينبئكم بما كنتم تعملون}. وهي لفتة من اللفتات القرآنية الموحية للمخاطبين بها وغير المخاطبين. تقر في الأخلاد حقيقة ينساها الناس، وهي تلاحقهم أينما كانوا.. فهذه الحياة إلى انتهاء. والبعد عن الله فيها ينتهي للرجعة إليه، فلا ملجأ منه إلا إليه. والحساب والجزاء بعد الرجعة كائنان لا محالة. فلا مهرب ولا فكاك. روى الطبري في معجمه من حديث معاذ بن محمد الهذلي عن يونس عن الحسن عن سمرة مرفوعاً: «مثل الذي يفر من الموت كمثل الثعلب، تطلبه الأرض بديْن، فجاء يسعى، حتى إذا أعيا وأنهر دخل جحره، فقالت له الأرض: يا ثعلب! ديْني. فخرج له حصاص. فلم يزل كذلك حتى تقطعت عنقه فمات».. وهي صورة متحركة موحية عميقة الإيحاء.. والآن يجيء المقطع الأخير في السورة خاصاً بتعليم يتعلق بالجمعة، بمناسبة ذلك الحادث الذي وقع ربما أكثر من مرة، لأن الصيغة تفيد التكرار: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع. ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون}. {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قآئماً. قل: ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة. والله خير الرازقين}.. وصلاة الجمعة هي الصلاة الجامعة، التي لا تصح إلا جماعة.. وهي صلاة أسبوعية يتحتم أن يتجمع فيها المسلمون ويلتقوا ويستمعوا إلى خطبة تذكرهم بالله. وهي عبادة تنظيمية على طريقة الإسلام في الإعداد للدنيا والآخرة في التنظيم الواحد وفي العبادة الواحدة؛ وكلاهما عبادة. وهي ذات دلالة خاصة على طبيعة العقيدة الإسلامية الجماعية التي تحدثنا عنها في ظلال سورة الصف. وقد وردت الأحاديث الكثيرة في فضل هذه الصلاة والحث عليها والاستعداد لها بالغسل والثياب والطيب. جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل». وروى أصحاب السنة الأربعة من حديث أوس بن أوس الثقفي قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم- يقول: من غسل واغتسل يوم الجمعة، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها». وروى الإمام أحمد من حديث كعب بن مالك عن أبي أيوب الأنصاري قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب أهله إن كان عنده، ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج يأتي المسجد، فيركع إن بدا له، ولم يؤذ أحداً، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي، كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى». والآية الأولى في هذا المقطع تأمر المسلمين أن يتركوا البيع وسائر نشاط المعاش بمجرد سماعهم للأذان: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع}.. وترغبهم في هذا الانخلاع من شؤون المعاش والدخول في الذكر في هذا الوقت: {ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}.. مما يوحي بأن الانخلاع من شؤون التجارة والمعاش كان يقتضي هذا الترغيب والتحبيب. وهو في الوقت ذاته تعليم دائم للنفوس؛ فلا بد من فترات ينخلع فيها القلب من شواغل المعاش وجواذب الأرض، ليخلو إلى ربه، ويتجرد لذكره، ويتذوق هذا الطعم الخاص للتجرد والاتصال بالملأ الأعلى، ويملأ قلبه وصدره، من ذلك الهواء النقي الخالص العطر ويستروح شذاه! ثم يعود إلى مشاغل العيش مع ذكر الله: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون}.. وهذا هو التوازن الذي يتسم به المنهج الإسلامي. والتوازن بين مقتضيات الحياة في الأرض، من عمل وكد ونشاط وكسب. وبين عزلة الروح فترة عن هذا الجو وانقطاع القلب وتجرده للذكر. وهي ضرورة لحياة القلب لا يصلح بدونها للاتصال والتلقي والنهوض بتكاليف الأمانة الكبرى. وذكر الله لا بد منه في أثناء ابتغاء المعاش، والشعور بالله فيه هو الذي يحول نشاط المعاش إلى عبادة. ولكنه مع هذا لا بد من فترة للذكر الخالص، والانقطاع الكامل، والتجرد الممحض. كما توحي هاتان الآيتان. وكان عراك بن مالك رضي الله عنه إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: «اللهم إني أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني. فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين».. (رواه ابن أبي حاتم).. هذه الصورة تمثل لنا كيف كان يأخذ الأمر جداً، في بساطة تامة، فهو أمر للتنفيذ فور سماعه بحرفيته وبحقيقته كذلك! ولعل هذا الإدراك الجاد الصريح البسيط هو الذي ارتقى بتلك المجموعة إلى مستواها الذي بلغت إليه، مع كل ما كان فيها من جواذب الجاهلية. مما تصوره الآية الأخيرة في السورة: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قآئما. قل: ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين}.. عن جابر رضي الله عنه قال: «بينا نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت عير تحمل طعاماً، فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً، منهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)} هذه السورة التي تحمل هذا الاسم الخاص «المنافقون» الدال على موضوعها.. ليست هي السورة الوحيدة التي فيها ذكر النفاق والمنافقين، ووصف أحوالهم ومكائدهم. فلا تكاد تخلو سورة مدنية من ذكر المنافقين تلميحاً أو تصريحاً. ولكن هذه السورة تكاد تكون مقصورة على الحديث عن المنافقين، والإشارة إلى بعض الحوادث والأقوال التي وقعت منهم ورويت عنهم. وهي تتضمن حملة عنيفة على أخلاق المنافقين وأكاذيبهم ودسائسهم ومناوراتهم، وما في نفوسهم من البغض والكيد للمسلمين، ومن اللؤم والجبن وانطماس البصائر والقلوب. وليس في السورة عدا هذا إلا لفتة في نهايتها إلى الذين آمنوا لتحذيرهم من كل ما يلصق بهم من صفة من صفات المنافقين، ولو من بعيد. وأدنى درجات النفاق عدم التجرد لله، والغفلة عن ذكره اشتغالاً بالأموال والأولاد، والتقاعس عن البذل في سبيل الله حتى يأتي اليوم الذي لا ينفع فيه البذل والصدقات. وحركة النفاق التي بدأت بدخول الإسلام المدينة، واستمرت إلى قرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تنقطع في أي وقت تقريباً، وإن تغيرت مظاهرها ووسائلها بين الحين والحين.. هذه الحركة ذات أثر واضح في سيرة هذه الفترة التاريخية وفي أحداثها؛ وقد شغلت من جهد المسلمين ووقتهم وطاقتهم قدراً كبيراً؛ وورد ذكرها في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف مرات كثيرة تدل على ضخامة هذه الحركة، وأثرها البالغ في حياة الدعوة في ذلك الحين. وقد ورد عن هذه الحركة فصل جيد في كتاب: «سيرة الرسول: صورة مقتبسة من القرآن الكريم» لمؤلفه الأستاذ «محمد عزة دروزة» نقتطف منه فقرات كاشفة: «وعلة ظهور تلك الحركة في المدينة واضحة، فالنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون الأولون في مكة لم يكونوا من القوة والنفوذ في حالة تستدعي وجود فئة من الناس ترهبهم أو ترجو خيرهم، فتتملقهم وتتزلف إليهم في الظاهر، وتتآمر عليهم وتكيد لهم وتمكر بهم في الخفاء، كما كان شأن المنافقين بوجه عام. ولقد كان أهل مكة وزعماؤها خاصة يناوئون النبي جهاراً، ويتناولون من استطاعوا من المسلمين بالأذى الشديد، ويقاومون الدعوة بكل وسيلة دون ما تحرز أو تحفظ؛ وكانت القوة لهم حتى اضطر المسلمون إلى الهجرة فراراً بدينهم ودمهم إلى الحبشة أولاً، ثم إلى يثرب؛ وحتى فتن بعضهم عن دينه بالعنف والإكراه، أو بالإغراء والتهويش؛ وحتى تزلزل بعضهم وتبرم ونافق المشركين، وحتى مات بعض من ناله الأذى ممن ثبت على دينه نتيجة للتعذيب.. » أما في المدينة فقد كان الأمر مختلفاً جداً. فالنبي صلى الله عليه وسلم استطاع قبل أن يهاجر إليها أن يكسب أنصاراً أقوياء من الأوس والخزرج؛ ولم يهاجر إلا بعد أن استوثق من موقفه، ولم يبق تقريباً بيت عربي فيها لم يدخله الإسلام. ففي هذه الحالة لم يكن من الهين أن يقف الذين لم يؤمنوا به إما عن جهالة وغباء، وإما عن غيظ وحقد وعناد، لأنهم رأوا في قدوم النبي حداً لنفوذهم وسلطانهم موقف الجحود والعداء العلني للنبي والمسلمين من المهاجرين والأنصار؛ وكان للعصبية في الوقت نفسه أثر غير قليل في عدم الوقوف هذا الموقف، لأن سواد الأوس والخزرج أصبحوا أنصار النبي، ومرتبطين به بمواثيق الدفاع والنصر، إلى أن جلهم قد حسن إسلامهم، وغدوا يرون في النبي رسول الله، وقائدهم الأعلى الواجب الطاعة، ومرشدهم الأعظم الواجب الاتباع، فلم يكن يسع الذين ظلت تغلبهم نزعة الشرك، ويتحكم فيهم مرض القلب والمكابرة والحقد، ويحملهم ذلك على مناوأة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته ونفوذه أن يظهروا علناً في نزعتهم وعدائهم، ولم يكن أمامهم إلا التظاهر بالإسلام، والقيام بأركانه، والتضامن مع قبائلهم. وجعل مكرهم وكيدهم ودسهم ومؤامراتهم بأسلوب المراوغة والخداع والتمويه، وإذا كانوا وقفوا أحياناً مواقف علنية فيها كيد ودس، وعليها طابع من النفاق بارز، فإنما كان هذا منهم في بعض الظروف والأزمات الحادة التي كانت تحدق بالنبي والمسلمين، والتي كانوا يتخذونها حجة لتلك المواقف بداعي المصلحة والمنطق والاحتياط؛ ولم يكونوا على كل حال يعترفون بالكفر أو النفاق، غير أن نفاقهم وكفرهم ومواقفهم في الكيد والدس والتآمر لم تكن لتخفى على النبي صلى الله عليه وسلم والمخلصين من أصحابه من المهاجرين والأنصار، كما أن المواقف العلنية التي كانوا يقفونها في فرص الأزمات كانت مما تزيد كفرهم ونفاقهم فضيحة ومقتاً. وقد كانت الآيات القرآنية توجه إليهم كذلك الفضائح المرة بعد المرة، وتدل عليهم بما يفعلون أو يمكرون، وتدمغهم بشرورهم وخبثهم ومكايدهم، وتحذر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين منهم في كل ظرف ومناسبة «. » ولقد كانت مواقف المنافقين ومكايدهم بعيدة المدى والأثر على ما تلهم الآيات المدنية، حتى لكأنه نضال قوي، يذكر بما كان من نضال بين النبي صلى الله عليه وسلم وزعماء مكة، وإن اختلفت الأدوار والنتائج؛ إذ أن النبي لم يلبث أن أخذ مركزه يتوطد وقوته تزداد، ودائرة الإسلام تتسع، وصار صاحب سلطان وأمر نافذ وجانب عزيز؛ وإذ لم يكن المنافقون كتلة متضامنة ذات شخصية خاصة بارزة، وكان ضعفهم وضآلة عددهم وشأنهم يسيران سيراً متناسباً عكسياً مع ما كان من تزايد قوة النبي صلى الله عليه وسلم واتساع دائرة الإسلام، وتوطد عزته وسلطانه «. » ويكفيك لأجل أن تشعر بخطورة الدور الذي قام به المنافقون، وخاصة في أوائل العهد، أن تلاحظ أن المنافقين كانوا أقوياء نسبياً بعصبياتهم التي كانت ما تزال قوية الأثر في نفوس سواد قبائلهم، كما أنهم لم يكونوا مفضوحين فضيحة تامة، ولم يكن الإسلام قد رسخ في هذا السواد رسوخاً كافياً؛ وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان محوطاً بالمشركين الجاحدين من كل جانب، وأهل مكة خصومه الألداء، وهم قبلة الجزيرة يتربصون به الدوائر، ويتحينون كل فرصة ووسيلة للقضاء عليه؛ واليهود في المدينة وحولها قد تنكروا له منذ عهد مبكر وتطيروا به، ثم جاهروه بالكفر والعداء والمكر؛ ولم يلبث أن انعقد بينهم وبين المنافقين حلف طبيعي على توحيد المسعى، والتضامن في موقف المعارضة والكيد، حتى ليمكن القول: إن المنافقين لم يقووا ويثبتوا ويكن منهم ذلك الأذى الشديد والاستمرار في الكيد والدس إلا بسبب ما لقوه من اليهود من تعضيد، وما انعقد بينهم من تضامن وتواثق، ولم يضعف شأنهم ويخف خطرهم إلا بعد أن مكن الله للنبي من هؤلاء وأظهره عليهم، وكفاه شرهم «. وهذه السورة تبدأ بوصف طريقتهم في مداراة ما في قلوبهم من الكفر، وإعلانهم الإسلام والشهادة بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو رسول الله. وحلفهم كذباً ليصدقهم المسلمون، واتخاذهم هذه الأيمان وقاية وجنة يخفون وراءها حقيقة أمرهم، ويخدعون المسلمين فيهم: {إذا جآءك المنافقون قالوا: نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون. اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله، إنهم سآء ما كانوا يعملون}.. فهم كانوا يجيئون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشهدون بين يديه برسالته شهادة باللسان، لا يقصدون بها وجه الحق، إنما يقولونها للتقية، وليخفوا أمرهم وحقيقتهم على المسلمين. فهم كاذبون في أنهم جاءوا ليشهدوا هذه الشهادة، فقد جاءوا ليخدعوا المسلمين بها، ويداروا أنفسهم بقولها. ومن ثم يكذبهم الله في شهادتهم بعد التحفظ الذي يثبت حقيقة الرسالة: {والله يعلم إنك لرسوله}.. {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون}. والتعبير من الدقة والاحتياط بصورة تثير الانتباه. فهو يبادر بتثبيت الرسالة قبل تكذيب مقالة المنافقين. ولولا هذا التحفظ لأوهم ظاهر العبارة تكذيب المنافقين في موضوع شهادتهم وهو الرسالة. وليس هذا هو المقصود. إنما المقصود تكذيب إقرارهم فهم لا يقرون الرسالة حقاً ولا يشهدون بها خالصي الضمير! {اتخذوا أيمانهم جنة}.. وهي توحي بأنهم كانوا يحلفون الأيمان كلما انكشف أمرهم، أو عرف عنهم كيد أو تدبير، أو نقلت عنهم مقالة سوء في المسلمين. كانوا يحلفون ليتقوا ما يترتب على افتضاح أمر من أمورهم، فيجعلون أيمانهم وقاية وجنة يحتمون وراءها، ليواصلوا كيدهم ودسهم وإغواءهم للمخدوعين فيهم. {فصدوا عن سبيل الله}.. صدوا أنفسهم وصدوا غيرهم مستعينين بتلك الأيمان الكاذبة: {إنهم ساء ما كانوا يعملون}.. وهل أسوأ من الكذب للخداع والتضليل!؟ ويعلل حالهم هذه من شهادة مدخولة كاذبة، وأيمان مكذوبة خادعة، وصد عن سبيل الله وسوء عمل.. يعلله بأنهم كفروا بعد الإيمان، واختاروا الكفر بعد أن عرفوا الإسلام: {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم، فهم لا يفقهون}.. فهم عرفوا الإيمان إذن، ولكنهم اختاروا العودة إلى الكفر. وما يعرف الإيمان ثم يعود إلى الكفر قلب فيه فقه، أو تذوق، أو حياة. وإلا فمن ذا الذي يذوق ويعرف، ويطلع على التصور الإيماني للوجود، وعلى التذوق الإيماني للحياة، ويتنفس في جو الإيمان الذكي، ويحيا في نور الإيمان الوضيء، ويتفيأ ظلال الإيمان الندية... ثم يعود إلى الكفر الكالح الميت الخاوي المجدب الكنود؟ من ذا الذي يصنع هذا إلا المطموس الكنود الحقود، الذي لا يفقه ولا يحس ولا يشعر بهذا الفارق البعيد! {فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون}.. ثم يرسم لهم السياق صورة فريدة مبدعة؛ تثير السخرية والهزء والزراية بهذا الصنف الممسوخ المطموس من الناس، وتسمهم بالفراغ والخواء والانطماس والجبن والفزع والحقد والكنود. بل تنصبهم تمثالاً وهدفاً للسخرية في معرض الوجود: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم. وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة. يحسبون كل صيحة عليهم. هم العدو فاحذرهم. قاتلهم الله أنى يؤفكون؟}.. فهم أجسام تعجب. لا أناسي تتجاوب! وما داموا صامتين فهم أجسام معجبة للعيون.. فأما حين ينطقون فهم خواء من كل معنى ومن كل حس ومن كل خالجة.. {تسمع لقولهم كأنهم خشب}.. ولكنها ليست خشباً فحسب. إنما هي {خشب مسندة}.. لا حركة لها، ملطوعة بجانب الجدار! هذا الجمود الراكد البارد يصورهم من ناحية فقه أرواحهم إن كانت لهم أرواح! ويقابله من ناحية أخرى حالة من التوجس الدائم والفزع الدائم والاهتزاز الدائم: {يحسبون كل صيحة عليهم}.. فهم يعرفون أنهم منافقون مستورون بستار رقيق من التظاهر والحلف والملق والالتواء. وهم يخشون في كل لحظة أن يكون أمرهم قد افتضح وسترهم قد انكشف. والتعبير يرسمهم أبداً متلفتين حواليهم؛ يتوجسون من كل حركة ومن كل صوت ومن كل هاتف، يحسبونه يطلبهم، وقد عرف حقيقة أمرهم!! وبينما هم خشب مسندة ملطوعة إذا كان الأمر أمر فقه وروح وشعور بإيقاعات الإيمان.. إذا هم كالقصبة المرتجفة في مهب الريح إذا كان الأمر أمر خوف على الأنفس والأموال! وهم بهذا وذاك يمثلون العدو الأول للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين: {هم العدو فاحذرهم}.. هم العدو الحقيقي. العدو الكامن داخل المعسكر، المختبئ في الصف. وهو أخطر من العدو الخارجي الصريح. {فاحذرهم}.. ولكن الرسول- صلى الله عليه وسلم- لم يؤمر هنا بقتلهم، فأخذهم بخطة أخرى فيها حكمة وسعة وثقة بالنجاة من كيدهم (كما سيجيء نموذج من هذه المعاملة بعد قليل). {قاتلهم الله أنى يؤفكون}.. فالله مقاتلهم حيثما صرفوا وأنى توجهوا. والدعاء من الله حكم بمدلول هذا الدعاء، وقضاء نافذ لا راد له ولا معقب عليه.. وهذا هو الذي كان في نهاية المطاف. ويستطرد السياق في وصف تصرفاتهم الدالة على دخل قلوبهم؛ وتبييتهم للرسول صلى الله عليه وسلم وكذبهم عند المواجهة.. وهي مجموعة من الصفات اشتهر بها المنافقون: {وإذا قيل لهم: تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءُوسهم، ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون. سوآء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، لن يغفر الله لهم، إن الله لا يهدي القوم الفاسقين. هم الذين يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا. ولله خزآئن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون. يقولون: لئن رجعنآ إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين. ولكن المنافقين لا يعلمون}.. وقد ذكر غير واحد من السلف أن هذا السياق كله نزل في عبد الله بن أبي بن سلول: وفصل ابن إسحاق هذا في حديثه عن غزوة بني المصطلق سنة ست على المريسيع.. ماء لهم.. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الماء بعد الغزوة وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له: جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني حليف بني عون ابن الخزرج على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار. وصرخ جهجاه. يا معشر المهاجرين. فغضب عبد الله بن أبي بن سلول، وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم غلام حدث. فقال: أوقد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا. والله ما أعدُّنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم أقبل على من حضره من قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم: أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم. فسمع ذلك زيد بن أرقم. فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك عند فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب. فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟ لا ولكن أذن بالرحيل» وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها. فارتحل الناس، وقد مشى عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمع منه فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به. وكان في قومه شريفاً عظيماً. فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل. حدباً على ابن أبي بن سلول ودفعاً عنه. قال ابن إسحاق فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار لقيه أسيد بن حضير، فحياه بتحية النبوة وسلم عليه، ثم قال: يا نبي الله، والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟» قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: «عبد الله بن أبي» قال: وما قال: قال: «زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل؟» قال: فأنت يا رسول الله والله لتخرجنه منها إن شئت. هو والله الذليل وأنت العزيز. ثم قال: يا رسول الله ارفق به. فوالله لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً! ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس. ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياماً، وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله ابن أبي. قال ابن إسحاق: ونزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين، في ابن أبي ومن كان على مثل أمره. فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد بن أرقم، ثم قال: «هذا الذي أوفى لله بأذنه» وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي الذي كان من أمر أبيه. قال ابن إسحاق. فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عبد الله أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه. فإن كنت لا بد فاعلاً فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس، فأقتله، فأقتل مؤمناً بكافر، فأدخل النار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا». وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم «: كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي: اقتله لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم تقتله لقتلته..» قال: قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري.. وذكر عكرمة وابن زيد وغيرهما أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة وقف عبد الله بن عبد الله بن أبي على باب المدينة، واستل سيفه، فجعل الناس يمرون عليه، فما جاء أبوه عبد الله بن أبي قال له ابنه: وراءك! فقال: مالك؟ ويلك! فقال: والله لا تجوز من ها هنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه العزيز وأنت الذليل! فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إنما يسير ساقة، فشكا إليه عبد الله بن أبي ابنه. فقال ابنه عبد الله: والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما إذ أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجز الآن.. وننظر مرة إلى الأحداث، ومرة إلى الرجال، ومرة إلى النص القرآني، فنجدنا مع السيرة، ومع المنهج التربوي الإلهي، ومع قدر الله العجيب في تصريف الأمور.. فهذا هو الصف المسلم يندس فيه المنافقون؛ ويعيشون فيه في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قرابة عشر سنوات. والرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرجهم من الصف، ولا يعرفهم الله له بأسمائهم وأعيانهم إلا قبيل وفاته. وإن كان يعرفهم في لحن القول، بالالتواء والمداورة. ويعرفهم بسيماهم وما يبدو فيها من آثار الانفعالات والانطباعات. ذلك كي لا يكل الله قلوب الناس للناس. فالقلوب له وحده، وهو الذي يعلم ما فيها ويحاسب عليه، فأما الناس فلهم ظاهر الأمر؛ كي لا يأخذوا الناس بالظنة، وكي لا يقضوا في أمورهم بالفراسة! وحتى حينما عرف الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالنفر الذين ظلوا على نفاقهم إلى أواخر حياته، فإنه لم يطردهم من الجماعة وهم يظهرون الإسلام ويؤدون فرائضه. إنما عرفهم وعرّف بهم واحداً فقط من رجاله هو حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ولم يشع ذلك بين المسلمين. حتى إن عمر رضي الله عنه كان يأتي حذيفة ليطمئن منه على نفسه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسمه له من المنافقين! وكان حذيفة يقول له: يا عمر لست منهم. ولا يزيد! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُمر ألا يصلي على أحد منهم مات أبداً. فكان أصحابه يعرفون عندما يرون الرسول لا يصلي على ميت. فلما قبض صلى الله عليه وسلم كان حذيفة لا يصلي على من عرف أنه منهم. وكان عمر لا ينهض للصلاة على ميت حتى ينظر. فإن رأى حذيفة هناك علم أنه ليس من المجموعة وإلا لم يصل هو الآخر ولم يقل شيئاً! وهكذا كانت تجري الأحداث كما يرسمها القدر لحكمتها ولغايتها، للتربية والعبرة وبناء الأخلاق والنظم والآداب. وهذا الحادث الذي نزلت فيه تلك الآيات هو وحده موضع عبر وعظات جمة.. هذا عبد الله بن أبي بن سلول. يعيش بين المسلمين. قريباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم تتوالى الأحداث والآيات من بين يديه ومن خلفه على حقيقة هذا الدين وصدق هذا الرسول. ولكن الله لا يهدي قلبه للإيمان، لأنه لم يكتب له هذه الرحمة وهذه النعمة. وتقف دونه ودون هذا الفيض المتدفق من النور والتأثير، تقف دونه إحنة في صدره أن لم يكن ملكاً على الأوس والخزرج، بسبب مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإسلام إلى المدينة! فتكفه هذه وحدها عن الهدى. الذي تواجهه دلائله من كل جانب. وهو يعيش في فيض الإسلام ومده في يثرب! وهذا ابنه عبد الله رضي الله عنه وأرضاه نموذج رفيع للمسلم المتجرد الطائع. يشقى بأبيه ويضيق بأفاعيله ويخجل من مواقفه. ولكنه يكن له ما يكنه الولد البار العطوف. ويسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يقتل أباه هذا. فيختلج قلبه بعواطف ومشاعر متباينه، يواجهها هو في صراحة وفي قوة وفي نصاعة. إنه يحب الإسلام، ويحب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحب أن ينفذ أمره ولو في أبيه. ولكنه لا يطيق أن يتقدم أحد فيضرب عنق أبيه ويظل يمشي على الأرض بعده أمام ناظريه. وهو يخشى أن تخونه نفسه، وألا يقدر على مغالبة شيطان العصبية، وهتاف الثأر.. وهنا يلجأ إلى نبيه وقائده ليعينه على خلجات قلبه، ويرفع عنه هذا العنت الذي يلاقيه. فيطلب منه إن كان لا بد فاعلاً أن يأمره هو بقتل أبيه. وهو لا بد مطيع. وهو يأتيه برأسه. كي لا يتولى ذلك غيره، فلا يطيق أن يرى قاتل أبيه يمشي على الأرض. فيقتله. فيقتل مؤمناً بكافر. فيدخل النار.. وإنها لروعة تواجه القلب أينما اتجه وأينما قلب النظر في هذا الموقف الكريم. روعة الإيمان في قلب إنسان، وهو يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكل إليه أشق عمل على النفس البشرية أن يقتل أباه وهو صادق النية فيما يعرض. يتقي به ما هو أكبر في نظره وأشق.. وهو أن تضطره نوازعه البشرية إلى قتل مؤمن بكافر، فيدخل النار.. وروعة الصدق والصراحة وهو يواجه ضعفه البشري تجاه أبيه وهو يقول: «فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني». وهو يطلب من نبيه وقائده أن يعينه على هذا الضعف ويخرجه من هذا الحرج؛ لا بأن يرد أمره أو يغيره فالأمر مطاع والإشارة نافذة ولكن بأن يكل إليه هو أن يأتيه برأسه! والرسول الكريم يرى هذه النفس المؤمنة المحرجة، فيمسح عنها الحرج في سماحة وكرامة: «بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا». ومن قبل هذا يكف عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رأيه: «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟». ثم تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم في الحادث تصرف القائد الملهم الحكيم.. وأمره بالسير في غير أوان، ومتابعة السير حتى الإعياء، ليصرف الناس عن العصبية المنتنة التي أثارها صياح الرجلين المتقاتلين: يا للأنصار! يا للمهاجرين! وليصرفهم كذلك عن الفتنة التي أطلقها المنافق عبد الله ابن أبي بن سلول، وأرادها أن تحرق ما بين الأنصار والمهاجرين من مودة وإخاء فريدين في تاريخ العقائد وفي تاريخ الإنسان.. وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم مع أسيد بن حضير، وما فيه من تعبئة روحية ضد الفتنة، واستجاشة للأخذ على يد صاحبها وهو صاحب المكانة في قومه حتى بعد الإسلام! وأخيراً نقف أمام المشهد الرائع الأخير. مشهد الرجل المؤمن عبد الله بن عبد الله بن أبي. وهو يأخذ بسيفه مدخل المدينة على أبيه فلا يدعه يدخل. تصديقاً لمقاله هو: {ليخرجن الأعز منها الأذل}. ليعلم أن رسول الله هو الأعز. وأنه هو الأذل. ويظل يقفه حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأذن له. فيدخلها بإذنه. ويتقرر بالتجربة الواقعة من هو الأعز ومن هو الأذل. في نفس الواقعة. وفي ذات الأوان. ألا إنها لقمة سامقة تلك التي رفع الإيمان إليها أولئك الرجال. رفعهم إلى هذه القمة، وهم بعد بشر، بهم ضعف البشر، وفيهم عواطف البشر، وخوالج البشر. وهذا هو أجمل وأصدق ما في هذه العقيدة، حين يدركها الناس على حقيقتها، وحين يصبحون هم حقيقتها التي تدب على الأرض في صورة أناسيّ تأكل الطعام وتمشي في الأسواق. ثم نعيش في ظلال النصوص القرآنية التي تضمنت تلك الأحداث: {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءُوسهم، ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون}.. فهم يفعلون الفعلة، ويطلقون القولة. فإذا عرفوا أنها بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم جبنوا وتخاذلوا وراحوا يقسمون بالأَيمان يتخذونها جنة. فإذا قال لهم قائل: تعالوا يستغفر لكم رسول الله، وهم في أمن من مواجهته، لووا رؤوسهم ترفعاً واستكباراً! وهذه وتلك سمتان متلازمتان في النفس المنافقة. وإن كان هذا التصرف يجيء عادة ممن لهم مركز في قومهم ومقام. ولكنهم هم في ذوات أنفسهم أضعف من المواجهة؛ فهم يستكبرون ويصدون ويلوون رؤوسهم ما داموا في أمان من المواجهة. حتى إذا ووجهوا كان الجبن والتخاذل والأيمان! ومن ثم يتوجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قضاه الله في شأنهم على كل حال. وبعدم جدوى الاستغفار لهم بعد قضاء الله: {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم: إن الله لا يهدي القوم الفاسقين}.. ويحكي طرفاً من فسقهم، الذي استوجب قضاء الله فيهم: {هم الذين يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا}.. وهي قولة يتجلى فيها خبث الطبع، ولؤم النحيزة. وهي خطة التجويع التي يبدو أن خصوم الحق والإيمان يتواصون بها على اختلاف الزمان والمكان، في حرب العقيدة ومناهضة الأديان. ذلك أنهم لخسة مشاعرهم يحسبون لقمة العيش هي كل شيء في الحياة كما هي في حسهم فيحاربون بها المؤمنين. إنها خطة قريش وهي تقاطع بني هاشم في الشعب لينفضوا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسلموه للمشركين! وهي خطة المنافقين كما تحكيها هذه الآية لينفض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه تحت وطأة الضيق والجوع! وهي خطة الشيوعيين في حرمان المتدينين في بلادهم من بطاقات التموين، ليموتوا جوعاً أو يكفروا بالله، ويتركوا الصلاة! وهي خطة غيرهم ممن يحاربون الدعوة إلى الله وحركة البعث الإسلامي في بلاد الإسلام، بالحصار والتجويع ومحاولة سد أسباب العمل والارتزاق.. وهكذا يتوافى على هذه الوسيلة الخسيسة كل خصوم الإيمان، من قديم الزمان، إلى هذا الزمان.. ناسين الحقيقة البسيطة التي يذكرهم القرآن بها قبل ختام هذه الآية: {ولله خزائن السماوات والأرض. ولكن المنافقين لا يفقهون}.. ومن خزائن الله في السماوات والأرض يرتزق هؤلاء الذين يحاولون أن يتحكموا في أرزاق المؤمنين، فليسوا هم الذين يخلقون رزق أنفسهم. فما أغباهم وأقل فقههم وهم يحاولون قطع الرزق عن الآخرين! وهكذا يثبت الله المؤمنين ويقوي قلوبهم على مواجهة هذه الخطة اللئيمة والوسيلة الخسيسة، التي يلجأ أعداء الله إليها في حربهم. ويطمئنهم إلى أن خزائن الله في السماوات والأرض هي خزائن الأرزاق للجميع. والذي يعطي أعداءه لا ينسى أولياءه. فقد شاءت رحمته ألا يأخذ حتى أعداءه من عباده بالتجويع وقطع الأرزاق. وقد علم أنهم لا يرزقون أنفسهم كثيراً ولا قليلاً لو قطع عنهم الأرزاق! وهو أكرم أن يكل عباده ولو كانوا أعداءه إلى ما يعجزون عنه البتة. فالتجويع خطة لا يفكر فيها إلا أخس الأخساء وألأم اللؤماء! ثم قولتهم الأخيرة: {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل}.. وقد رأينا كيف حقق ذلك عبد الله بن عبد الله بن أبي! وكيف لم يدخلها الأذل إلا بإذن الأعز! {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين. ولكن المنافقين لا يعلمون}.. ويضم الله سبحانه رسوله والمؤمنين إلى جانبه، ويضفي عليهم من عزته، وهو تكريم هائل لا يكرمه إلا الله! وأي تكريم بعد أن يوقف الله سبحانه رسوله والمؤمنين معه إلى جواره. ويقول: ها نحن أولاء! هذا لواء الأعزاء. وهذا هو الصف العزيز! وصدق الله. فجعل العزة صنو الإيمان في القلب المؤمن. العزة المستمدة من عزته تعالى. العزة التي لا تهون ولا تهن، ولا تنحني ولا تلين. ولا تزايل القلب المؤمن في أحرج اللحظات إلا أن يتضعضع فيه الإيمان. فإذا استقر الإيمان ورسخ فالعزة معه مستقرة راسخة.. {ولكن المنافقين لا يعلمون}.. وكيف يعلمون وهم لا يتذوقون هذه العزة ولا يتصلون بمصدرها الأصيل؟ لهؤلاء المؤمنين الذين أوقفهم الله في صفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل عزتهم من عزته يوجه النداء الأخير في السورة، ليرتفعوا إلى هذا المكان الكريم، ويبرأوا من كل صفة تشبه صفات المنافقين، ويختاروا ذلك المقام الأسنى على الأموال والأولاد، فلا يدعوها تلهيهم عن بلوغ ذلك المقام الوضيء: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله. ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون. وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت، فيقول: رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين. ولن يؤخر الله نفساً إذا جآء أجلهآ، والله خبير بما تعملون}.. والأموال والأولاد ملهاة ومشغلة إذا لم يستيقظ القلب، ويدرك غاية وجوده، ويشعر أن له هدفاً أعلى يليق بالمخلوق الذي نفخ الله فيه من روحه، فأودع روحه الشوق إلى تحقيق بعض صفاته الإلهية في حدود طاقته البشرية. وقد منحه الأموال والأولاد ليقوم بالخلافة في الأرض لا لتلهيه عن ذكر الله والاتصال بالمصدر الذي تلقى منه ما هو به إنسان.
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} هذه السورة أشبه شيء بالسور المكية في موضوعها وفي سياقها وفي ظلالها وإيحاءاتها، وبخاصة المقاطع الأولى منها. فلا يكاد الجو المدني يتبين إلا في فقراتها الأخيرة. والفقرات الأولى إلى ابتداء النداء: {يا أيها الذين آمنوا}.. تستهدف بناء أسس العقيدة، وإنشاء التصور الإسلامي في القلوب بأسلوب السور المكية التي تواجه الكفار المشركين ابتداء. وتخاطبهم بهذا التصور خطاب المبتدئ في مواجهته. ثم هي تستخدم المؤثرات الكونية والنفسية كما تستعرض مصائر الغابرين من المكذبين قبلهم؛ وتعرض عليهم مشاهد القيامة لإثبات البعث، وتوكيده توكيداً شديداً، يدل على أن المخاطبين به من المنكرين الجاحدين. فأما الفقرات الأخيرة فهي تخاطب الذين آمنوا بما يشبه خطابهم في السور المدنية، لحثهم على الإنفاق، وتحذرهم فتنة الأموال والأولاد. وهي الدعوة التي تكررت نظائرها في العهد المدني بسبب مقتضيات الحياة الإسلامية الناشئة فيها. كما أن فيها ما قد يكون تعزية عن مصاب أو تكاليف وقعت على عاتق المؤمنين، ورد الأمر فيها إلى قدر الله، وتثبيت هذا التصور.. وهو ما يتكرر في السور المدنية وبخاصة بعد الأمر بالجهاد وما ينشأ عنه من تضحيات. ولقد وردت روايات أن السورة مكية، ووردت روايات أخرى أنها مدنية مع ترجيحها. وكدت أميل إلى اعتبارها مكية تأثراً بأسلوب الفقرات الأولى فيها وجوها. ولكني أبقيت اعتبارها مدنية مع الرأي الراجح فيها لأنه ليس ما يمنع أن تكون الفقرات الأولى فيها خطاباً للكفار بعد الهجرة سواء كانوا كفار مكة أم كفار القريبين من المدينة. كما أنه ليس ما يمنع أن يستهدف القرآن المدني في بعض الأحيان جلاء أسس العقيدة، وإيضاح التصور الإسلامي، بهذا الأسلوب الغالب على أسلوب القرآن المكي.. والله أعلم.. والمقطع الأول في السورة يستهدف بناء التصور الإيماني الكوني، وعرض حقيقة الصلة بين الخالق سبحانه وهذا الكون الذي خلقه. وتقرير حقيقة بعض صفات الله وأسمائه الحسنى وأثرها في الكون وفي الحياة الإنسانية: {يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير. خلق السماوات والأرض بالحق، وصوركم فأحسن صوركم، وإليه المصير. يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون. والله عليم بذات الصدور}.. وهذا التصور الكوني الإيماني هو أدق وأوسع تصور عرفه المؤمنون في تاريخ العقيدة. ولقد جاءت الرسالات الإلهية كلها بوحدانية الله، وإنشائه لهذا الوجود ولكل مخلوق، ورعايته لكل كائن في الوجود.. لا نشك في هذا لأن القرآن يحكيه عن الرسل وعن الرسالات كلها. ولا عبرة بما نجده في الكتب المفتراة والمحرفة؛ أو فيما يكتبه عن الديانات المقارنة أناس لا يؤمنون بالقرآن كله أو بعضه. إنما جاء الانحراف عن العقيدة الإيمانية من أتباعها، فبدا أنها لم تأت بالتوحيد الخالص، أو لم تأت بهيمنه الله واتصاله بكل كائن. فهذا من التحريف الطارئ لا من أصل الديانة. فدين الله واحد منذ أولى الرسالات إلى خاتمة الرسالات. ويستحيل أن ينزل الله ديناً يخالف هذه القواعد، كما يزعم الزاعمون بناء على ما يجدونه في كتب مفتراة أو محرفة باسم الدين! ولكن تقرير هذه الحقيقة لا ينافي أن التصور الإسلامي عن الذات الإلهية، وصفاتها العلوية، وآثار هذه الصفات في الكون وفي الحياة الإنسانية.. أن هذا التصور أوسع وأدق وأكمل من كل تصور سابق في الديانات الإلهية.. وهذا متفق مع طبيعة الرسالة ومهمتها الأخيرة. ومع الرشد البشري الذي جاءت هذه الرسالة لتخاطبه وتوجهه؛ وتنشئ فيه هذا التصور الشامل الكامل بكل مقتضياته وفروعه وآثاره. ومن شأن هذا التصور أن يدرك القلب البشري بمقدار ما يطيق حقيقة الألوهية وعظمتها، ويشعر بالقدرة الإلهية ويراها في آثارها المشهودة في الكون، ويحسها في ذوات الأنفس بآثارها المشهودة والمدركة؛ ويعيش في مجال هذه القدرة وبين آثارها التي لا تغيب عن الحس والعقل والإلهام. ويراها محيطة بكل شيء، مهيمنة على كل شيء، مدبرة لكل شيء، حافظة لكل شيء، لا يند عنها شيء. سواء في ذلك الكبير والصغير والجليل والحقير. ومن شأنه كذلك أن يعيش القلب البشري في حساسية مرهفة، وتوفز دائم، وخشية وارتقاب، وطمع ورجاء؛ وأن يمضي في الحياة معلقاً في كل حركة وكل خالجة بالله، شاعراً بقدرته وهيمنته، شاعراً بعلمه ورقابته، شاعراً بقهره وجبروته، شاعراً برحمته وفضله، شاعراً بقربه منه في كل حال. وأخيراً فإن من شأنه أن يحس بالوجود كله متجهاً إلى خالقه فيتجه معه، مسبحاً بحمد ربه فيشاركه تسبيحه، مدبراً بأمره وحكمته فيخضع لشريعته وقانونه.. ومن ثم فهو تصور إيماني كوني بهذا المعنى، وبمعان أخرى كثيرة تتجلى في المواضع المتعددة في القرآن التي تضمنت عرض جوانب من هذا التصور الإيماني الشامل الكامل المحيط الدقيق. وأقرب مثل منها ما ورد في ختام سورة الحشر، في هذا الجزء. {يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض، له الملك وله الحمد}.. فكل ما في السماوات والأرض متوجه إلى ربه، مسبح بحمده؛ وقلب هذا الوجود مؤمن، وروح كل شيء في هذا الوجود مؤمنة، والله مالك كل شيء. وكل شيء شاعر بهذه الحقيقة. والله محمود بذاته ممجّد من مخلوقاته. فإذا وقف الإنسان وحده في خضم هذا الوجود الكبير كافر القلب جامد الروح، متمرداً عاصياً، لا يسبح لله، ولا يتجه إلى مولاه، فإنه يكون شاذاً بارز الشذوذ، كما يكون في موقف المنبوذ من كل ما في الوجود. {وهو على كل شيء قدير}.. فهي القدرة المطلقة، التي لا تتقيد بقيد. وهي حقيقة يطبعها القرآن في القلب المؤمن فيعرفها ويتأثر بمدلولها، ويعلم أنه حين يركن إلى ربه فإنما يركن إلى قدرة تفعل ما تشاء، وتحقق ما تريد. بلا حدود ولا قيود. وهذا التصور لقدرة الله وتسبيح كل شيء له، وتوجه الوجود إليه بالحمد.. هو طرف من ذلك التصور الإيماني الكبير. واللمسة الثانية في صميم القلب الإنساني، الذي يقف في خضم الوجود المؤمن المسبح بحمد الله. مؤمناً تارة وكافراً تارة. وهو وحده الذي يقف هذا الموقف الفريد. {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن}.. فعن إرادة الله وعن قدرته صدر هذا الإنسان؛ وأُودع إمكان الاتجاه إلى الكفر وإمكان الاتجاه إلى الإيمان؛ وتميز بهذا الاستعداد المزدوج من بين خلق الله؛ ونيطت به أمانة الإيمان بحكم هذا الاستعداد. وهي أمانة ضخمة وتبعة هائلة. ولكن الله كرم هذا المخلوق فأودعه القدرة على التمييز والقدرة على الاختيار؛ وأمده بعد ذلك بالميزان الذي يزن به عمله ويقيس به اتجاهه. وهو الدين الذي نزله على رسل منه. فأعانه بهذا كله على حمل هذه الأمانة. ولم يظلمه شيئاً. {والله بما تعملون بصير}.. فهو رقيب على هذا الإنسان فيما يعمل، بصير بحقيقة نيته واتجاهه، فليعمل إذن وليحذر هذا الرقيب البصير.. وهذا التصور لحقيقة الإنسان وموقفه هو طرف من التصور الإسلامي الواضح المستقيم لموقف الإنسان في هذا الوجود، واستعداداته وتبعاته أمام خالق الوجود. واللمسة الثالثة تشير إلى الحق الأصيل الكامن في طبيعة الوجود، الذي تقوم به السماوات والأرض، كما تشير إلى صنعة الله المبدعة في كيان المخلوق الإنساني. وتقرر رجعة الجميع إليه في نهاية المطاف: {خلق السماوات والأرض بالحق، وصوركم فأحسن صوركم، وإليه المصير}.. وصدر هذا النص: {خلق السماوات والأرض بالحق}.. يقر في شعور المؤمن أن الحق أصيل في كيان هذا الكون، ليس عارضاً وليس نافلة؛ فبناء الكون قام على هذا الأساس. والذي يقرر هذه الحقيقة هو الله الذي خلق السماوات والأرض، والذي يعلم على أي أساس قامتا. واستقرار هذه الحقيقة في الحس يمنحه الطمأنينة والثقة في الحق الذي يقوم عليه دينه، ويقوم عليه الوجود من حوله؛ فهو لا بد ظاهر، ولا بد باق، ولا بد مستقر في النهاية بعد زبد الباطل! والحقيقة الثانية: {وصوركم فأحسن صوركم}.. تشعر الإنسان بكرامته على الله، وبفضل الله عليه في تحسين صورته: صورته الخلقية وصورته الشعورية. فالإنسان هو أكمل الأحياء في الأرض من ناحية تكوينه الجثماني؛ كما أنه أرقاها من ناحية تكوينه الشعوري واستعداداته الروحية ذات الأسرار العجيبة. ومن ثم وكلت إليه خلافة الأرض، وأقيم في هذا الملك العريض بالقياس إليه! ونظرة فاحصة إلى الهندسة العامة لتركيب الإنسان، وإلى أي جهاز من أجهزته، تثبت تلك الحقيقة وتجسمها: {وصوركم فأحسن صوركم}. . وهي هندسة يجتمع فيها الجمال إلى الكمال. ويتفاوت الجمال بين شكل وشكل. ولكن التصميم في ذاته جميل وكامل الصنعة، وواف بكل الوظائف والخصائص التي يتفوق بها الإنسان في الأرض على سائر الأحياء. {وإليه المصير}.. مصير كل شيء وكل أمر وكل خلق.. مصير هذا الكون ومصير هذا الإنسان. فمن إرادته انبثق، وإليه سبحانه يعود. ومنه المنشأ وإليه المصير.. وهو الأول والآخر. المحيط بكل شيء من طرفيه: مبدئه ونهايته. وهو سبحانه غير محدود! واللمسة الرابعة في هذا المقطع هي تصوير العلم الإلهي المحيط بكل شيء، المطلع على سر الإنسان وعلانيته، وعلى ما هو أخفى من السر، من ذوات الصدور الملازمه للصدور: {يعلم ما في السماوات والأرض، ويعلم ما تسرون وما تعلنون، والله عليم بذات الصدور}.. واستقرار هذه الحقيقة في القلب المؤمن يفيده المعرفة بربه، فيعرفه بحقيقته. ويمنحه جانباً من التصور الإيماني الكوني. ويؤثر في مشاعره واتجاهاته؛ فيحيا حياة الشاعر بأنه مكشوف كله لعين الله. فليس له سر يخفى عليه، وليس له نية غائرة في الضمير لا يراها وهو العليم بذات الصدور. وإن آيات ثلاثاً كهذه لكافية وحدها ليعيش بها الإنسان مدركاً لحقيقة وجوده. ووجود الكون كله، وصلته بخالقه، وأدبه مع ربه، وخشيته وتقواه، في كل حركة وكل اتجاه.. والمقطع الثاني في السورة يذكر بمصير الغابرين من المكذبين بالرسل والبينات، المعترضين على بشرية الرسل. كما كان المشركون يكذبون ويعترضون على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم ويكفرون بما جاءهم به من البينات: {ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم؟ ولهم عذاب أليم. ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات، فقالوا: أبشر يهدوننا؟ فكفروا وتولوا، واستغنى الله، والله غني حميد}.. والخطاب هنا للمشركين غالباً وهو تذكير لهم بعاقبة المكذبين وتحذير لهم من مثل هذه العاقبة. والاستفهام قد يكون لإنكار حالهم بعد ما جاءهم من نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم. وقد يكون للفت أنظارهم إلى هذا النبأ الذي يقصه عليهم. وهم كانوا يعرفون ويتناقلون أنباء بعض الهلكى من الغابرين. كعاد وثمود وقرى لوط. وهم يمرون عليها في شبه الجزيرة، في رحلاتهم للشمال والجنوب. ويضيف القرآن إلى المعروف من مآلهم في الدنيا ما ينتظرهم هنالك في الآخرة: {ولهم عذاب أليم}.. ثم يكشف عن السبب الذي استحقوا به ما نالهم وما ينتظرهم: {ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا: أبشر يهدوننا؟}.. وهو الاعتراض ذاته الذي يعترضه المشركون على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو اعتراض فج ناشئ عن الجهل بطبيعة الرسالة، وكونها منهجاً إلهياً للبشر، فلا بد أن تتمثل واقعياً في بشر، يحيا بها، ويكون بشخصه ترجماناً لها؛ فيصوغ الآخرون أنفسهم على مثاله بقدر ما يستطيعون. ولا ينعزل هو عنهم بجنسه، فيتعذر أن يجدوا للرسالة صورة واقعية يحاولون تحقيقها في ذوات أنفسهم، وفي حياتهم ومعاشهم. وناشئ كذلك من الجهل بطبيعة الإنسان ذاته ورفعة حقيقته بحيث يتلقى رسالة السماء ويبلغها، بدون حاجة إلى أن يحملها إلى الناس ملك كما كانوا يقترحون. ففي الإنسان تلك النفخة من روح الله! وهي تهيئة لاستقبال الرسالة من الله، وأدائها كاملة كما تلقاها من الملأ الأعلى. وهي كرامة للجنس البشري كله لا يرفضها إلا جاهل بقدر هذا الإنسان عند الله، حين يحقق في ذاته حقيقة النفخة من روح الله! وناشئ في النهاية من التعنت والاستكبار الكاذب عن اتِّباع رسول من البشر. كأن في هذا غضاً من قيمة هؤلاء الجهال المتكبرين! فجائز في عرفهم أن يتبعوا رسولاً من خلق آخر غير جنسهم بلا غضاضة. أما أن يتبعوا واحداً منهم فهي في نظرهم حطة وقلة قيمة! ومن ثم كفروا وتولوا معرضين عن الرسل وما معهم من البينات، ووقفت في صدورهم هذه الكبرياء وذلك الجهل. فاختاروا لأنفسهم الشرك والكفر.. {واستغنى الله. والله غني حميد}.. استغنى الله عنهم وعن إيمانهم وعن طاعتهم.. وما هو سبحانه بمحتاج إلى شيء منهم ولا من غيرهم، ولا بمحتاج أصلاً: {والله غني حميد}. فهذا نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم. وهذا سبب ما ذاقوا وما ينتظرهم. فكيف يكذب بعد هذا النبأ مكذبون جدد؟ أليلقوا مصيراً كهذا المصير؟ والمقطع الثالث بقية للمقطع الثاني يحكي تكذيب الذين كفروا بالبعث وظاهر أن الذين كفروا هم المشركون الذين كان الرسول صلى الله عليه وسلم يواجههم بالدعوة وفيه توجيه للرسول أن يؤكد لهم أمر البعث توكيداً وثيقاً. وتصوير لمشهد القيامة ومصير المكذبين والمصدقين فيه؛ ودعوة لهم إلى الإيمان والطاعة ورد كل شيء لله فيما يقع لهم في الحياة. {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا. قل بلى وربي لتبعثن، ثم لتنبؤن بما عملتم. وذلك على الله يسير. فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا. والله بما تعملون خبير. يوم يجمعكم ليوم الجمع، ذلك يوم التغابن، ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته، ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبداً. ذلك الفوز العظيم. والذين كفروا وكذبوا بآياتنآ أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير. مآ أصاب من مصيبة إلا بإذن الله، ومن يؤمن بالله يهد قلبه، والله بكل شيء عليم، وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول، فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين. الله لا إله إلا هو، وعلى الله فليتوكل المؤمنون}.. ومنذ البدء يسمي مقالة الذين كفروا عن عدم البعث زعماً، فيقضي بكذبه من أول لفظ في حكايته. ثم يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى توكيد أمر البعث بأوثق توكيد، وهو أن يحلف بربه. وليس بعد قسم الرسول بربه توكيد، {قل: بلى وربي لتبعثن}.. {ثم لتنبئون بما عملتم}.. فليس شيء منه بمتروك. والله أعلم منهم بعملهم حتى لينبئهم به يوم القيامة! {وذلك على الله يسير}.. فهو يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم السر والعلن وهو عليم بذات الصدور. وهو على كل شيء قدير. كما جاء في مطلع السورة تمهيداً لهذا التقرير. وفي ظل هذا التوكيد الوثيق يدعوهم إلى الإيمان بالله ورسوله والنور الذي أنزله مع رسوله. وهو هذا القرآن. وهو هذا الدين الذي يبشر به القرآن. وهو نور في حقيقته بما أنه من عند الله. والله نور السماوات والأرض. وهو نور في آثاره إذ ينير القلب فيشرق بذاته ويبصر الحقيقة الكامنة فيه هو ذاته. ويعقب على دعوتهم إلى الإيمان، بما يشعرهم أنهم مكشوفون لعين الله لا يخفى عليه منهم شيء: {والله بما تعملون خبير}.. وبعد هذه الدعوة يعود إلى استكمال مشهد البعث الذي أكده لهم أوثق توكيد: {يوم يجمعكم ليوم الجمع: ذلك يوم التغابن}.. فأما أنه يوم الجمع فلأن جميع الخلائق في جميع الأجيال تبعث فيه، كما يحضره الملائكة وعددهم لا يعلمه إلا الله. ولكن قد يقربه إلى التصور ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون. أطت السماء وحق لها أن تيط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك واضع جبهته لله تعالى ساجداً. والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى. لوددت أني شجرة تعضد». والسماء التي ليس فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك. هي هذا الاتساع الهائل الذي لا يعرف له البشر حدوداً. والذي تبدو فيه شمس كشمسنا ذرة كالهباءة الطائرة في الفضاء! فهل هذا يقرب شيئاً للتصور البشري عن عدد الملائكة؟ إنهم من بين الجمع في يوم الجمع! وفي مشهد من هذا الجمع يكون التغابن! والتغابن مفاعلة من الغبن. وهو تصوير لما يقع من فوز المؤمنين بالنعيم؛ وحرمان الكافرين من كل شيء منه ثم صيرورتهم إلى الجحيم. فهما نصيبان متباعدان. وكأنما كان هناك سباق للفوز بكل شيء، وليغبن كل فريق مسابقه! ففاز فيه المؤمنون وهزم فيه الكافرون! فهو تغابن بهذا المعنى المصور المتحرك! يفسره ما بعده: {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبداً. ذلك الفوز العظيم. والذين كفروا وكذبوا بآياتنآ أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير}.. وقبل أن يكمل نداءه إليهم بالإيمان يقرر قاعدة من قواعد التصور الإيماني في القدر، وفي أثر الإيمان بالله في هداية القلب: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله. ومن يؤمن بالله يهد قلبه، والله بكل شيء عليم}.. ولعل مناسبة ذكر هذه الحقيقة هنا هي مجرد بيانها في صدد عرض حقيقة الإيمان الذي دعاهم إليه في هذا المقطع. فهو الإيمان الذي يرد كل شيء إلى الله، ويعتقد أن كل ما يصيب من خير ومن شر فهو بإذن الله. وهي حقيقة لا يكون إيمان بغيرها. فهي أساس جميع المشاعر الإيمانية عند مواجهة الحياة بأحداثها خيرها وشرها. كما يجوز أن تكون هناك مناسبة حاضرة في واقع الحال عند نزول هذه السورة. أو هذه الآية من السورة، فيما كان يقع بين المؤمنين والمشركين من وقائع. وعلى أية حال فهذا جانب ضخم من التصور الإيماني الذي ينشئه الإسلام في ضمير المؤمن. فيحس يد الله في كل حدث، ويرى يد الله في كل حركة، ويطمئن قلبه لما يصيبه من الضراء ومن السراء. يصبر للأولى ويشكر للثانية. وقد يتسامى إلى آفاق فوق هذا، فيشكر في السراء وفي الضراء؛ إذ يرى في الضراء كما في السراء فضل الله ورحمته بالتنبيه أو بالتكفير أو بترجيح ميزان الحسنات، أو بالخير على كل حال. وفي الحديث المتفق عليه: «عجباً للمؤمن! لا يقضي الله قضاء إلا كان خيراً له. إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له. وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له. وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن». {ومن يؤمن بالله يهد قلبه}.. وقد فسرها بعض السلف بأنها الإيمان بقدر الله والتسليم له عند المصيبة. وعن ابن عباس يعني يهدي قلبه هداية مطلقة. ويفتحه على الحقيقة اللدنية المكنونة. ويصله بأصل الأشياء والأحداث، فيرى هناك منشأها وغايتها. ومن ثم يطمئن ويقر ويستريح. ثم يعرف المعرفة الواصلة الكلية فيستغني عن الرؤية الجزئية المحفوفة بالخطأ والقصور. ومن ثم يكون التعقيب عليها: {والله بكل شيء عليم}.. فهي هداية إلى شيء من علم الله، يمنحه لمن يهديه، حين يصح إيمانه فيستحق إزاحة الحجب، وكشف الأسرار.. بمقدار.. ويتابع دعوتهم إلى الإيمان فيدعوهم إلى طاعة الله وطاعة الرسول: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول، فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين}. وقد عرض عليهم من قبل مصير الذين تولوا. وهنا يقرر لهم أن الرسول مبلغ. فإذا بلغ فقد أدى الأمانة، ونهض بالواجب، وأقام الحجة. وبقي ما ينتظرهم هم من المعصية والتوالي، مما ذكروا به منذ قليل. ثم يختم هذا المقطع بتقرير حقيقة الوحدانية التي ينكرونها ويكذبونها، ويقرر شأن المؤمنين بالله في تعاملهم مع الله: {الله لا إله إلا هو، وعلى الله فليتوكل المؤمنون}.. وحقيقة التوحيد هي أساس التصور الإيماني كله. ومقتضاها أن يكون التوكل عليه وحده. فهذا هو أثر التصور الإيماني في القلوب. وبهذه الآية يدخل السياق في خطاب المؤمنين. فهي وصلة بين ما مضى من السورة وما يجيء. وفي النهاية يوجه الخطاب إلى المؤمنين يحذرهم فتنة الأزواج والأولاد والأموال، ويدعوهم إلى تقوى الله، والسمع والطاعة والإنفاق، كما يحذرهم شح الأنفس، ويعدهم على ذلك مضاعفة الرزق والمغفرة والفلاح، ويذكرهم في الختام بعلم الله للحاضر والغائب، وقدرته وغلبته، مع خبرته وحكمته: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم، وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم. إنمآ أموالكم وأولادكم فتنة، والله عنده أجر عظيم. فاتقوا الله ما استطعتم، واسمعوا وأطيعوا، وأنفقوا خيراً لأنفسكم، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون. إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم، ويغفر لكم، والله شكور حليم. عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم}.. وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنه في الآية الأولى من هذا السياق وقد سأله عنها رجل فقال: فهؤلاء رجال أسلموا من مكة، فأرادوا أن يأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم. فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين، فهموا أن يعاقبوهم، فأنزل الله هذه الآية: {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم}.. وهكذا رواه الترمذي بإسناد آخر وقال: حسن صحيح. وهكذا قال عكرمة مولى ابن عباس. ولكن النص القرآني أشمل من الحادث الجزئي وأبعد مدى وأطول أمداً. فهذا التحذير من الأزواج والأولاد كالتحذير الذي في الآية التالية من الأموال والأولاد معاً: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة}.. والتنبيه إلى أن يكون من الأزواج والأولاد من يكون عدواً.. إن هذا يشير إلى حقيقة عميقة في الحياة البشرية. ويمس وشائج متشابكة دقيقة في التركيب العاطفي وفي ملابسات الحياة سواء. فالأزواج والأولاد قد يكونون مشغلة وملهاة عن ذكر الله. كما أنهم قد يكونون دافعاً للتقصير في تبعات الإيمان اتقاء للمتاعب التي تحيط بهم لو قام المؤمن بواجبه فلقي ما يلقاه المجاهد في سبيل الله! والمجاهد في سبيل الله يتعرض لخسارة الكثير، وتضحية الكثير. كما يتعرض هو وأهله للعنت. وقد يحتمل العنت في نفسه ولا يحتمله في زوجه وولده. فيبخل ويجبن ليوفر لهم الأمن والقرار أو المتاع والمال! فيكونون عدواً له، لأنهم صدوه عن الخير، وعوقوه عن تحقيق غاية وجوده الإنساني العليا. كما أنهم قد يقفون له في الطريق يمنعونه من النهوض بواجبه، اتقاء لما يصيبهم من جرائه، أو لأنهم قد يكونون في طريق غير طريقه، ويعجز هو عن المفاصلة بينه وبينهم والتجرد لله.. وهي كذلك صور من العداوة متفاوتة الدرجات.. وهذه وتلك مما يقع في حياة المؤمن في كل آن. ومن ثم اقتضت هذه الحال المعقدة المتشابكة، التحذير من الله، لإثارة اليقظة في قلوب الذين آمنوا، والحذر من تسلل هذه المشاعر، وضغط هذه المؤثرات. ثم كرر هذا التحذير في صورة أخرى من فتنة الأموال والأولاد. وكلمة فتنة تحتمل معنيين: الأول أن الله يفتنكم بالأموال والأولاد بمعنى يختبركم، فانتبهوا لهذا، وحاذروا وكونوا أبداً يقظين لتنجحوا في الابتلاء، وتخلصوا وتتجردوا لله. كما يفتن الصائغ الذهب بالنار ليخلصه من الشوائب! والثاني أن هذه الأموال والأولاد فتنة لكم توقعكم بفتنتها في المخالفة والمعصية، فاحذروا هذه الفتنة لا تجرفكم وتبعدكم عن الله. وكلا المعنيين قريب من قريب. وقد روى الإمام أحمد بإسناده عن عبد الله بن بريدة: سمعت أبي بريدة يقول: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما عليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما، فوضعهما بين يديه. ثم قال: صدق الله ورسوله، إنما أموالكم وأولادكم فتنة. نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما». ورواه أهل السنة من حديث ابن واقد. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذان ابنا بنته.. وإنه لأمر إذن خطير. وخطر. وإن التحذير والتنبيه فيه لضرورة يقدرها من خلق قلوب الناس، وأودعها هذه المشاعر، لتكفكف نفسها عن التمادي والإفراط، وهي تعلم أن هذه الوشائج الحبيبة قد تفعل بها ما يفعل العدو، وتؤدي بها إلى ما تؤدي إليه مكايد الأعداء! ومن ثم يلوح لها بما عند الله بعد التحذير من فتنة الأموال والأولاد، والعداوة المستسرة في بعض الأبناء والأزواج. فهذه فتنة {والله عنده أجر عظيم}.. ويهتف للذين آمنوا بتقوى الله في حدود الطاقة والاستطاعة، بالسمع والطاعة: {فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا}.. وفي هذا القيد: {ما استطعتم} يتجلى لطف الله بعباده، وعلمه بمدى طاقتهم في تقواه وطاعته. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه»
|